في السياسة نريد دهاة لا دراويش!
تاريخ النشر: 20 سبتمبر 2014م
توضيح:
نقصد بالداهية هنا: الرجل السياسي الذكي، العاقل، البعيد النظر، غير القابل للاستدراج..
ونقصد بالدرويش: الزاهد الورع، البعيد عن فنون السياسة وتعقيداتها.
*****
أنجبت الصحوة الإسلامية بفضل الله، وعلى مدى عشرات السنين الماضية، رجالا فطاحل في مختلف التخصصات: مشايخ، فقهاء، وعاظ، محدثون، مؤرخون، مهندسون، أطباء.. إلخ. أصبح للصحوة الإسلامية وللحركات الإسلامية رموز يشار إليهم بالبنان، خدموا دينهم وأوطانهم أعظم خدمة، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين كل خير.
ولكن النقص الخطير يتمثل في ندرة أو انعدام وجود دهاة في السياسة. وهذه مسألة خطيرة جدا طالما أن الحركات الإسلامية ولجت السياسة من أوسع أبوابها، امتثالا لشمولية الإسلام.
بل رأينا قادة الحركات الإسلامية ومشاهير الدعاة يتحولون إلى فريسة سهلة لذئاب السياسة من العسكر والعلمانيين وكل عدو لله ورسوله والمؤمنين، والسبب الرئيس في ذلك هو غلبة الدروشة على العاملين بالسياسة من الإسلاميين، وهذا لا يعني التخلي عن المبادئ حين العمل بالسياسة، ولكننا نريد القائد الذي يتمسك بمبادئ الدين ويجيد فنون السياسة.
في أواخر حياة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، كان الكلام عن التوريث على كل لسان، والاستعدادات العملية لهذا التوريث يراها ويحس بها حتى الأطفال والعجائز.
ومع ذلك، لما سُئل أحد كبار قادة الحركة الإسلامية السورية في لقاء حاشد عن مستقبل سوريا واحتمالات توريث السلطة إلى بشار من بعد والده، أجاب: "إن هذا مستحيل الحدوث، فإن سوريا دولة ذات نظام جمهوري، والتوريث غير وارد"!!
كان هذا القيادي -رحمه الله- من خير البشر في زمانه خُلقا وورعا، ولكن انظروا إلى قدراته السياسية من خلال هذه الإجابة.
مثال آخر: أحد كبار الدعاة، من الذين عُرفوا بمتابعتهم لأحوال المسلمين حول العالم، قام بزيارة لروسيا في بدايات عهد بوريس يلتسين، والتقى في زيارته هذه بالزعيم الشيوعي المتطرف روسلان حسبولاتوف، الذي كان يعارض يلتسين في مساعيه لإنهاء الحقبة الشيوعية السوفييتية.
كان حسبولاتوف من أصول شيشانية مسلمة، ولكنه كان شيوعيا حتى النخاع، ولما التقى بالداعية الكبير، أظهر -أي حسبولاتوف- على سبيل المجاملة بعض الاهتمام بشئون المسلمين في روسيا، وهذه عادة متبعة عند القادة والزعماء أن يظهروا الاهتمام حسب ما يمليه ظرف الزيارة ونوعية الضيف، ولكن الداعية الكبير خرج من هذا اللقاء وهو يظن أن حسبولاتوف أمير المؤمنين!! وأخذ يدعوا بطول البقاء لهذا الزعيم الشيوعي!
في عام 1952م، أعانت الحركة الإسلامية في مصر الجيش على حركته ضد النظام الملكي الفاسد، فما كان من العسكر إلا أن انقلبوا على الحليف، وبدأت المأساة الكبرى، وتدلت حبال المشنقة لتفتك بأناس هم من أطهر وأطيب من أنجبتهم مصر في العصر الحديث. هكذا تمكن الأعداء بكل سهولة من الفتك بالحركة الإسلامية القوية المهابة!
وأعاد التاريخ نفسه بعد (60) سنة بالضبط: العسكر يجددون المذابح ضد الإسلاميين بقسوة أشد بكثير بعد انقلابهم الدموي في 3 يوليو 2013م.
ولما قامت الثورة الإيرانية عام 1979م، أخذت وفود الحركات الإسلامية وكبار الدعاة والمفكرين يتسابقون إلى طهران لتقديم التهاني بانتصار الثورة المجيدة، التي ستكون مصدر عز للإسلام والمسلمين! ولم يفطنوا أنها حركة طائفية شعوبية إلا بعد مرور ثلاثة عقود، بعدما سالت دماء أهل السنة أنهارا في العراق وسوريا.
هذه الدروشة كانت هي الطابع الغالب على عموم الطبقة الإسلامية المثقفة منذ بدايات القرن الميلادي العشرين. فعندما قامت حركة التمرد في الحجاز عام 1916م ضد الدولة العثمانية، فيما عُرف بـ(الثورة العربية الكبرى)، بتخطيط من الاستعمار البريطاني، عجزت هذه النخب العربية المثقفة عن إدراك حجم هذه المؤامرة الرهيبة، وأخذت في تأييد هذه (الثورة) بكل حماس وقوة، ولم تنتبه إلى حقيقة الأمر إلا (بعد أن ضرب الفاس في الراس)!
وعندما أخذ الأعداء في (تلميع) العميل أتاتورك، تمهيدا لإلغاء الخلافة، وأخذوا يصطنعون له انتصارا بعد آخر على القوات اليونانية المحتلة، أخذت النخب المثقفة تكيل المديح للفاتح العظيم، ومن ذلك أبيات الشعر التي قالها أمير الشعراء أحمد شوقي:
اللَهُ أَكبَرُ كَم في الفَتحِ مِن عَجَبٍ..
يا خالِدَ التُركِ جَدِّد خالِدَ العَرَبِ
لقد شبّه أتاتورك بخالد بن الوليد!!
ولما تبينت حقيقة المجرم أتاتورك، وألغى الخلافة عام 1924، قال شوقي باكيا وهو يرثي الخلافة:
عادت أغاني العرس رجـع نواح..
ونعـيـت بيــن معالم الأفراح
لماذا لا ننتبه إلا بعد فوات الأوان؟
لماذا نُلدغ من ذات الجحر مرات ومرات؟
أوليس المؤمن بالكيّس الفطن؟!
أين فراسة عمر؟
أين دهاء معاوية؟
أين تخطيط نور الدين؟
أين ذكاء صلاح الدين؟!
اللهم بصّرنا بعيوبنا، وطهر من كل نقص صفوفنا.. آمين.