المتغلّب (قصة قصيرة)

تاريخ النشر: 19 فبراير 2014م

 

جرت أحداث هذه القصة قبل قرون عدة، في بلاد ما وراء الجبل، حيث كان يعيش شعب مسلم، يحكمه رجل صالح، يخطأ أحيانا، ويصيب غالبا..

وصل هذا الحاكم الصالح إلى سدة الحكم بالشورى، حيث اتفق غالبية الشعب، بقيادة أهل الحل والعقد، من ساسة وقادة وعلماء ووجهاء على اختياره، لما يمتاز به من صفات تؤهله لقيادة الشعب بما يرضي الله ويحقق رغبات الشعب وتطلعاته.

 

بعد عدة سنوات من اختيار هذا الحاكم الصالح، بدأت تفوح روائح الفتنة..

بدأ أحد القادة البارزين، من المتطلعين للزعامة والحكم بنشر الإشاعات حول الحاكم، وكيف أنه يؤثر فئة على أخرى، ولا يحكم بالسوية، ويستأثر بالسلطات دون الشعب، إلى غير ذلك من تهم باطلة، بقصد سحب الشرعية من الحاكم وإضعافا لشأنه.

 

دعاه الحاكم إلى الحوار، وجرت مناقشات علنية، وتم الرد على الاتهامات ولكن دون جدوى..

بدأ العلماء في التحرك. ذهبوا إليه ونصحوه ألا يثير الفتنة في المجتمع، وأن محاولاته في التشكيك في شرعية الحاكم وتوجيه الاتهامات الباطلة إليه عمل محرم شرعا.

لم يستمع القائد إلى نصائح العلماء، بل استمر في غيه وبدأ أتباعه يزدادون عددا، وبدأ بعض قادة الجيش ينحازون إليه بعد أن وعدهم بالمناصب العالية إن وصل إلى سدة الحكم.

عاد إليه العلماء ناصحين محذرين ألا يشق عصا الطاعة، وألا يتسبب في إثارة الفتنة بين الشعب الواحد المسلم.

 

لم يعطهم القائد آذانا صاغية.. وبدأت المعارك تندلع بين الفريقين، وبدأ القتلى يتساقطون..

قرر أصحاب الفضيلة العلماء أن يزوروه للمرة الأخيرة، ليغلظوا له في القول، ويتشددوا معه في النصيحة، لعله يذّكر أو يخشى.

 

ذهبوا إليه ورددوا على مسامعه آيات كريمة، وأحاديث شريفة، تحث على السمع والطاعة لولي الأمر، وتنهى عن العصيان والتمرد. قالوا له: "أنت خارج عن إجماع المسلمين الذين اختاروا الحاكم بمحض إرادتهم، وبتشاور منهم".

وقالوا له: "نحن علماء هذه الأمة وفقهائها، ندعوك أن تتخلى عن حظوظ النفس، وتحافظ على الأرواح البريئة أن تزهق بسبب أطماع شخصية، واعلم أنك بعملك هذا تكون حلال الدم، ومن حق الحاكم أن يقاتلك باعتبارك من الخوارج"..

لم يستمع للنصيحة، واضطر الحاكم أن يحاربه بكل قوة..

وبعد كثير من الكر والفر، بدأ القائد المتمرد يحقق انتصارات على جيش الحاكم، حتى تمكن من محاصرة الحاكم الشرعي، وقبض عليه، وأمر بإعدامه فورا، وأعلن نفسه حاكما جديدا.

 

عقد أصحاب الفضيلة العلماء اجتماعا طارئا في وقت متأخر من الليل لمناقشة الوضع، واتفقوا على ضرورة زيارة القائد المتغلب ومبايعته على السمع والطاعة!

قال قائل منهم: "ولكن هذا انقلاب على الشرعية، وهذا القائد خرج على إجماع المسلمين ومكّن لنفسه بالسيف"!

ردّ عليه أصحاب الفضيلة فورا: "صحيح، هو كذلك، ولكنه الآن أصبح حاكما شرعيا متغلبا، وانتفت عنه صفة الخروج"!

 

ثم اتفقوا على زيارة هذا المتغلب في الصباح الباكر لمبايعته..

صاح بعض العلماء: "ولماذا الانتظار حتى صباح الغد. لا يجوز أن نبيت الليلة بلا بيعة في أعناقنا لأحد"!

استحسن الباقي هذا الرأي، وخرجوا من فورهم إلى الحاكم الجديد المتغلب، وقدموا له ألوان السمع والطاعة باعتباره ولي أمر المسلمين.. وسارت الأمور كما اشتهى وأراد المتغلب.

 

مرت عدة سنوات، وبدأت روائح الفتنة تفوح من جديد. إذ أن أحد معاوني المتغلب لم يعجبه أن يستأثر زميله بالأمر والنهي، وهو يرى نفسه أحق وأولى بالحكم.

بدأ المعاون يستقطب القادة والوجهاء إلى صفه، ممنيا لهم بالمناصب والغنائم إن هم نصروه في خروجه على الحاكم الجديد.

 

بدأت حركة الخروج والتمرد تتسع..

عقد الحاكم الجديد المتغلب اجتماعا طارئا لمناقشة الأمر. أشار البعض بضرورة قمع التمرد بكل قسوة وشدة..

البعض أشار إلى ضرورة الحوار والتفاهم..

واقترح البعض إرسال وفد من العلماء إلى المتمردين لنصحهم وإرشادهم..

هنا صعق المتغلب، وتذكر كيف أن العلماء فعلوا معه نفس الشيء عندما كان يُعد من الخوارج، ثم أضفوا عليه الشرعية عندما تغلب على الحاكم الشرعي!

 

فوراً، استغل إبليس الفرصة، وكان حاضرا الاجتماع بصفته المستشار السياسي للمتغلب..

قال إبليس: "كان للعلماء دور في تمكين الأمر لك يا سيادة المتغلب.. ألم يتسابقوا إليك مقدمين صنوف الطاعة والولاء بعد تغلبك على الحاكم السابق"؟

واصل إبليس: "وسيفعلون نفس الشيء مع هذا المتمرد إن تغلب عليك"..

قال المتغلب: "وما العمل"؟

قال إبليس: "أترك الأمر لحكمتكم، ولكني أنبه إلى أن المتمرد يعلم بأن العلماء سيوفرون له

الشرعية إن تغلب عليك، وهذا مما يشجعه على الاستمرار في تمرده حتى يحقق أهدافه"..

قال المتغلب: "فإن لم يكن هناك علماء ليضفوا عليه الشرعية إن تغلب عليّ"؟

قال إبليس: "هذا سيحبطه بالتأكيد ويقلل من فرص تغلبه عليك"..

 

وهنا، أصدر المتغلب أمرا لجنده بإعدام كل العلماء في البلد..

فورا.. خرجت فرق من الحرس الرئاسي والحرس الخاص وحرس الاغتيالات لتنفيذ أوامر المتغلب.

 

لعنة الله على إبليس.