الإسلاميون ومائة عام من الغفلة السياسية

تاريخ النشر: 5 يوليو 2023م

 

نوضح في البداية ثلاثة أمور:

 

أولا: نقصد بالإسلاميين هنا، أصحاب التوجه الديني الإسلامي من شخصيات وأفراد، أو جماعات وأحزاب، ممن ساهموا أو يساهمون في نهضة الإسلام والدعوة إليه، كل حسب توجهه ومنهجه.

 

ثانيا: ونقصد بالغفلة السياسية، غياب الوعي السياسي، وقلة أو انعدام الدهاء السياسي، والضعف الشديد في استشراف المستقبل من خلال ما هو واقع ومتوقع من أحداث.

 

ثالثا: هذا المقال يغطي فترة تاريخية تمتد من الربع الأول من القرن (20م) إلى الربع الأول من القرن (21م).

 

وإليكم بعض النماذج من هذه الغفلة السياسية:

 

(1) ثورة الشريف حسين بن علي عام 1916م:

عندما أعلن الشريف حسين بن علي (الثورة) على الدولة العثمانية، وتسبب لاحقا في المصيبة التي عمت المسلمين وجاءت بالمستعمر البريطاني والفرنسي إلى المشرق العربي..

عندما وقعت هذه الكارثة المسماة بالثورة، انحاز إليها وأيدها بكل حماس نخبة من المفكرين والأعلام، دون أن ينتبهوا إلى حقيقة ما يدور خلف الكواليس، وإلى ما يدبر من تآمر سيؤدي إلى تسليم فلسطين لليهود، ولبنان للنصارى، وسوريا للنصيرية!

كان على رأس هؤلاء المخدوعين ثلة من الأفاضل الكرام، من أمثال الأستاذ محمد كرد علي، والأستاذ محب الدين الخطيب، والشيخ محمد رشيد رضا رحمهم الله. ثم بانت الحقيقة يوم لا ينفع الندم.

 

(2) الثورة اليمنية عام 1948م:

ساهمت الحركة الإسلامية في مصر مساهمة فعالة في تنظيم وتنفيذ هذه الثورة ضد النظام الإمامي المتخلف الذي يقوده (الإمام) يحيى حميد الدين.

اختارت الحركة الإسلامية المصرية رجلا فاضلا جزائري الأصل، هو الأستاذ الفضيل الورتلاني رحمه الله، وأرسلته إلى اليمن ليؤجج الجماهير، وينسق مع النخبة اليمنية المتأهبة للثورة.

ولكن المشكلة تكمن هنا فيما يلي: المجتمع اليمني مجتمع تسوده الطائفية، وتتغلغل فيه المذهبية حتى النخاع! بينما اختارت الحركة الإسلامية شخصا جزائريا لا يدري ما السنّة والشيعة!

والخطأ الفاحش الآخر هو أن الثوار اختاروا شخصا بديلا عن الإمام يحيى حميد الدين، هو عبدالله الوزير، الذي ينتمي إلى نفس المنظومة الكهنوتية الفاسدة التي تحكم اليمن. والنتيجة الطبيعية: الفشل الساحق الماحق للثورة!

 

(3) ثورة يوليو 1952م في مصر:

أو بالأحرى، انقلاب يوليو 1952م، وهو الانقلاب الذي تزعمه شلة من الضباط الفاسدين إلا من رحم الله، وبالتعاون الكامل مع الحركة الإسلامية في مصر. استطاع جمال عبدالناصر أن يتغلغل في صفوف الحركة الإسلامية، ووصل فيها إلى مراكز خطيرة، وحصل على معلومات مثيرة!

ثم قام بالانقلاب، ثم فتك بالإسلاميين، الذين اوصلوه إلى الحكم، أو ساهموا في إيصاله. إنها مأساة حقا. إنها الدروشة في مقام السياسة!

 

(4) أحداث العشرية السوداء في الجزائر:

هي الصراع المسلح الذي اشتعل بين النظام الجزائري وفصائل متعددة تتبنى أفكارًا موالية للجبهة الإسلامية للإنقاذ.

بدأ الصراع في يناير عام 1992م عقب إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية لعام 1991م والتي حققت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ فوزا مؤكدا مما حدا بالجيش الجزائري التدخل لإلغاء الانتخابات البرلمانية في البلاد.

كان ذلك عملا ظالما بحق الإسلاميين، ولكن الحماس الزائد، غير المقرون بالحكمة من قِبَل الجبهة الإسلامية للإنقاذ، تحت قيادة عباسي مدني وعلي بلحاج، وعدم قدرتهما على تقدير ردة فعل الخصم، كل ذلك كان سببا آخر في المذابح التي وقعت خلال تلك العشرية.

 

(5) ثورات (الربيع) العربي 2011م حتى الآن:

لا يزال الجدل قائما حول هذه (الثورات) في الدول العربية الخمس المعنية، هل كانت هذه (الثورات) جماهيرية عفوية، أم مؤامرة محكمة باستخدام ما يسمى بـ "هندسة الجماهير"؟ عموما، لم تكن الحركات الإسلامية مؤهلة إطلاقا لتقود عملية "إطلاق الثورة ثم إقامة الدولة"!

 

ففي تونس: سادت الحركة الإسلامية الساحة السياسية طوال الفترة من 2011م إلى 2022م دون أن تتمكن من تغيير وضع المجتمع والمواطن التونسي إلى حال أفضل، ولو قليلا.

كما لم تنتبه الحركة إلى أن الهزيمة السريعة لزين العابدين بن علي، وهروبه الأسرع، كان وراءه قرار اتخذته الدولة العميقة في تونس، وليس بسبب زخم الثورة المزعومة. هذه الدولة العميقة هي التي تقود العملية الانقلابية الآن من وراء واجهة تسمى (قيس سغيّد)!

 

وفي ليبيا: أسقط الثوار القذافي (بمعونة طائرات حلف الناتو)، ولم يستطيعوا حتى اللحظة إقامة الفردوس المنشود.

 

وفي مصر: أوصلت الحركة الإسلامية إلى منصب وزير الدفاع من قام بانقلاب دموي ليس له مثيل في التاريخ المصري الحديث، وتتابعت المآسي، ولم يستفد الإسلاميون شيئا من تجربة انقلاب 1952م. قلنا إنها دروشة في مقام السياسة!

 

وفي سوريا: وقف العالم بأسره، تقريبا، في صف الطاغية، وضد الثوار. ولكن ليس هذا هو السبب الرئيس لفشل الثورة. السبب الرئيس هو عدم وجود قيادة موحدة تمثل الشعب السوري الثائر، وهذا عنصر مهم في نجاح أي ثورة.

لقد انقسم الثوار الأشاوس إلى "عدة آلاف" من الفصائل والجبهات والكتائب والأحزاب والمنظمات. أنّى للثورة أن تنجح.

 

وفي اليمن: انقاد الثوار، وفي المقدمة الحركة الإسلامية، للمبادرة الخليجية، والتي ساوت بين الثورة والنظام! واقترحت فترة انتقالية تُجرى بعدها "انتخابات حرة نزيهة"!

أما الثوار، فرجعوا فرحين آمنين إلى بيوتهم، منتظرين أن تأتي "الانتخابات الحرة النزيهة".

أما الطاغية، فاستغل الفرصة واتفق مع الحوثيين للانقلاب على الثورة، ثم استغل الحوثيون الفرصة للانقلاب على الطاغية والانفراد بالحكم. وخرج الثوار من المولد بلا حمص!

 

(6) استدراج الشيخ أحمد الريسوني:

في أغسطس عام 2022م، صدرت تصريحات غريبة ومثيرة عن العالم الجليل الدكتور أحمد الريسوني خلال لقاء تلفزيوني.

تكلم الريسوني عن المملكة المغربية التي "كانت دولة عظمى"، وذكر كلاما مفاده أن موريتانيا بأكملها والأجزاء الغربية من الجزائر (وحدد منطقة تندوف) هي جزء من المغرب.

الشيخ الريسوني، المتخصص في فقه "المقاصد"، سبب للناس عموما، وللإسلاميين خصوصا إرباكا شديدا حول "مقاصده" من هذه التصريحات. فعلى اعتبار الحدود التاريخية، وبحسب "المنطق الريسوني"، فإن على مصر أن تطالب بالسودان، لأنها السودان كان جزءا من مصر حتى عام 1956م، وبإمكان سوريا أن تطالب بلبنان والأردن، بل وبإمكان تركيا أن تطالب بأراضي حوالي (30) دولة، لأن (عظمة) تركيا أكبر بكثير تاريخيا من (عظمة) المغرب التي يتغنى بها الريسوني!

لقد استدرج الشيخ المقاصدي الكبير، وبكل سهولة، إلى مستنقع الصراع السياسي الحاد بين النظامين الجزائري والمغربي، وما كان ينبغي للعالم الكبير أن يقع في الفخ بهذه السهولة، إلا إذا كان الشيخ يرى أن "الغفلة السياسية" هي جزء لا يتجزأ من "فقه المقاصد".

 

ولله الأمر من قبل ومن بعد.