الفيلسوف عبدالرحمن بدوي.. يا لها من عبرة

تاريخ النشر: 30 يونيو 2020م

 

الدكتور المصري عبدالرحمن بدوي (1917-2002م) هو القطب الأكبر والرمز الأشهر للفلاسفة العرب المعاصرين، بل كانت شهرته عالمية بامتياز.

أمضى حياته وهو يجوب أقطار أوروبا متتبعا آثار الفلاسفة الإنجليز والألمان والطليان والفرنسيين، مترجما ومروجا لأعمال أفلاطون وأفلوطين وأرسطو وسقراط.

 

كان ذكيا حاد الذكاء، مجدّاً في عمله، مكثراً في إنتاجه، يؤلف ويكتب ويحاضر بعدة لغات أوروبية، وقد تبنى (الفلسفة الوجودية)، التي تؤله الإنسان، و(تحرره) من كل منظومة دينية وعقدية.

يقول الدكتور بدوي: "الوجود الحق والوحيد هو الوجود الإنساني، حتى صارت شارته هي: من الإنسان وإلى الإنسان بالإنسان، أو: كل شيء للإنسان، ولا شيء ضد الإنسان، ولا شيء خارج الإنسان". (الإنسانية والوجودية في الفكر العربي، ص6)

 

وكان للدكتور طه حسين دور كبير في تشجيعه وتوجيهه إلى الفلسفة، ولنقل: في ضلاله وانحرافه.

يقول ابن الصلاح رحمه الله: "الفلسفة رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة". (فتاوى ابن الصلاح، ص210)

 

ولكن يظهر أن بدوي كانت تتنازعه أيضا نزعة عربية وإسلامية خفية، كانت تظهر أحيانا في بعض مواقفه وكتاباته.

من الأمثلة الواضحة على ذلك، كتابه (دفاع عن القرآن ضد منتقديه)، الذي صدر عام 1989م، وكتابه الآخر (دفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم ضد المنتقصين من قدره)، الصادر عام 1990م.
ولكنه استمر في ترويج فكره الانحلالي الوجودي إلى أواخر حياته، فقد أصدر كتاب (سيرة حياتي) في سنة 2000م، ولا يبدو فيه أي أثر للتوبة، فهو يروج لفكره بكل قوة في هذا الكتاب، بل ويتباهى بمغامراته (العاطفية) مع بنات أوروبا بلا خجل ولا حياء!

 

ثم حدثت المفاجأة: أعلن الدكتور بدوي توبته بصورة جلية واضحة، وهو على فراش المرض في مستشفى بالقاهرة. كان الحدث مفرحا للمؤمنين، وصدمة للمنحرفين.

 

قبل وفاته بأيام، في شهر يوليو 2002م، أجرت معه مجلة (الحرس الوطني) مقابلة صحفية، فجاءت توبته مدوية لا لبس فيها، قال: "لا أستطيع أن أعبر عما بداخلي من إحساس الندم الشديد، لأنني عاديت الإسلام والتراث العربي لأكثر من نصف قرن. أشعر الآن أنني بحاجة إلى من يغسلني بالماء الصافي الرقراق، لكي أعود من جديد مسلما حقا. إنني تبت إلى الله وندمت على ما فعلت. وأنوي إن شاء الله –بعد شفائي- أن أكون جنديا للفكر الإسلامي وللدفاع عن الحضارة التي أشادها الآباء والأجداد ... أتمنى أن يمد الله في عمري لأخدم الإسلام وأرد عنه كيد الكائدين وحقد الحاقدين". (مجلة الحرس الوطني الفصلية، بتاريخ 1 أكتوبر 2002م، العدد 244)

 

وانتقد أستاذه طه حسين قائلا: "ليقارن القارئ والباحث بين إنتاج طه حسين وإنتاج معاصريه، كالرافعي مثلا، ذلك الأديب الكبير المظلوم، الذي يمتلك قدرات ومؤهلات أدبية وفكرية خارقة، وصاحب قلم رشيق، وخيال خصب، وعبارات مبتكرة، وكتابات توزن بميزان الذهب. بينما نجد على النقيض أعمال طه حسين الضاربة في اتجاه معاداة الإسلام واللغة العربية، والدعوة إلى الفكر الغربي ثقافة وأدبا".

 

إنها لحظة الحقيقة.. جاءت متأخرة، لكنها جاءت.. (فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ).

 

يقول الدكتور عبدالقادر بن محمد الغامدي في كتابه النفيس عن الدكتور بدوي: "ظهر لنا من سيرة عبدالرحمن بدوي جليا حكمة الشارع في المنع من مخالطة الكفار ومصاحبتهم واتخاذهم بطانة، فعبدالرحمن بدوي من نتائج تلك المخالطة". (عبد الرحمن بدوي ومذهبه الفلسفي، ومنهجه في دراسة المذاهب، ص569)

 

تمنى الدكتور بدوي أن يمد الله في عمره ليخدم الإسلام، ولكن: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا).. و(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

 

رحم الله عبدالرحمن بدوي وغفر له.