جمعية الإصلاح بين سهام الجرح وغياب التعديل

تاريخ النشر: 13 فبراير 2007م

 

للإمام شمس الدين الذهبي رحمه الله كتاب جليل، جامع لفنون شتى وأخبار كثيرة، هو كتاب (سير أعلام النبلاء)، يجد فيه الناظر غايته في أخبار الرجال جرحا وتعديلا.

ويتميز الذهبي في كتابه هذا بالإنصاف العظيم، فهو لا يكتفي بسرد تاريخ المترجم له دون التعليق -غالبا- بما يراه ضروريا لإنصافه، ثم يحاول أن يخرج بحكم عام مقرون بالإنصاف. وهذه الصفة، أي الإنصاف في الحكم على الآخرين يعطي ضوءا كاشفا يعين الإنسان على اجتياز تلك المنطقة (الخطرة) في عالم النقد والتحليل، تلك المنطقة المحشورة بين سلبية الانتقادات.. وانتقاد السلبيات!!

 

أسوق هذا الكلام بمناسبة كثرة ما يكتب في صحفنا هذه الأيام من انتقادات ظالمة، وما يشن من هجوم غير مبرر على جمعية الإصلاح، تظهر من خلاله هذه الجمعية وكأنها كتلة صماء صلدة من السلبيات العتيقة المتأصلة، التي تخلو من أي إيجابيات!!

 

شعار جمعية الإصلاح البحرينية

شعار جمعية الإصلاح البحرينية

 

من بين الانتقادات التي وجهت -عبر الصحافة- للجمعية:
أنها فرضت على نفسها عزلة شعورية منعتها من الاندماج في المجتمع!
وأنها أهملت كتابة تاريخها فمنعت الأجيال من الاطلاع على تجربتها!
وأنها إنما توسعت في أنشطتها في بداية الثمانينيات بإيعاز من الحكومة لخلق نوع من التوازن الطائفي!
وأنها ذات فكر جامد تجاوزه الزمن!

إلى آخر هذه الاتهامات التي اشترك في توجيهها (كوكتيل) عجيب من الكتّاب، يضم في ثناياه علمانيين هم أكثر علمانية حتى من (أتاتورك)! ومتأمركين ومتأمركات لا تجد مثيلا لهم حتى في ردهات البيت الأبيض! وماركسيين يزينون كتاباتهم هذه الأيام بالآيات والأحاديث! ومحايدين(!) ركبوا الموجة مع الراكبين، ومحبين للجمعية -زعموا- يؤدون واجب النصح والإرشاد! وآخرين لو أمضيت الأيام والليالي محاولاً تصنيفهم في خانة معينة لما استطعت!

 

ويجد المنصف نفسه في حيرة من أمره إن هو أراد تبيان الحقائق والرد على الشبهات والافتراءات، فمعظم ما كتب عن الجمعية -على عادة أكثر ما يكتب في الصحافة هذه الأيام- إنما هو مزيج من التعميمات والانطباعات والظن والتوقعات، ولا يخلو أكثره من انعكاس لخلافات شخصية، وأهواء لا تستند إلى وقائع ملموسة، أو ينبئ في بعضه -على أحسن تقدير- عن عدم اطلاع على واقع الجمعية وأحوالها.

ونحن لا ندري كيف يمكن لمنصف أن يتهم جمعية الإصلاح بوقوعها في حبائل العزلة الشعورية ومقاطعة المجتمع ومشاكله، في الوقت الذي تعد فيه هذه الجمعية من رواد العمل الإسلامي الشعبي، وفي الوقت الذي تعزو فيه الجمعية سبب نجاحاتها في الكثير من أنشطتها -بعد توفيق الله تعالى- إلى تجاوب الجمهور معها، ذلك التجاوب الذي ما جاء إلاّ نتيجة للثقة التي تتمتع بها الجمعية لدى الغالبية العظمى من الجمهور البحريني الكريم.. هذه الثقة التي ما كانت الجمعية لتحظى بعشر معشارها لو كانت متترسة وراء جدران العزلة الشعورية!

يجب أن ننتبه جيدا ونحن نتعامل مع بعض المصطلحات الفكرية التي وردت في كتابات بعض المفكرين الإسلاميين، وبخاصة الشهيد سيد قطب رحمة الله عليه، الذي قصد بـ (العزلة الشعورية) أن يحصن المسلم الملتزم نفسه من التأثر بالأفكار والأجواء المناهضة للفكرة الإسلامية، فلا يتأثر بها، كي يصلح أن يكون داعية إلى المجتمع الإسلامي السليم، لأن القاعدة تقول (إن فاقد الشيء لا يعطيه).

 

وجمعية الإصلاح لها سجل حافل من التواصل مع المجتمع والتجاوب مع مشاكله، والتعاطي مع كافة فئات المجتمع من خلال تشكيلة متنوعة من الأنشطة في شتى المجالات.

فقد قامت بواجبها الديني والوطني تجاه الشريحة الأكثر فقرا من أبناء مجتمعنا من خلال لجنة الأعمال الخيرية، التي هي امتداد للجنة الاجتماعية بالجمعية، ذات السجل الحافل بالعطاء، والذي لا ينكر دورها أحد.

وتعتبر الجمعية الرائدة في وطننا الغالي في تأسيس العمل الخيري الإسلامي المؤسسي المنظم، وما حصولها على شهادة الجودة العالمية (الآيزو) مؤخراً إلا دليل على استمرار هذه الريادة.

أضف إلى ذلك الكثير مما يمكن تسميته بـ (أوليات جمعية الإصلاح) في البحرين، ومن الأمثلة على ذلك: أنها أول من أقام مراكز تحفيظ القرآن الكريم في البلاد في عام 1975م، فأحدثت بذلك نقلة نوعية في أساليب العناية بكتاب الله تعالى من الطريقة التقليدية القديمة إلى طرق حديثة قائمة على العمل المؤسسي الرائد.

وهي أول من بادر بإقامة معرض الكتاب الإسلامي كل سنتين منذ بداية الثمانينيات لتروج للفكر الإسلامي الوسطي المعتدل الذي هو دعامة من دعامات شخصية مجتمعنا المسلم.

وهي أول من اهتم بإحياء العشر الأواخر من رمضان، خاصة ليلة السابع والعشرين منه.

وتعتبر جمعية الإصلاح أول من اهتم بنشر النشيد الإسلامي الهادف، كبديل عن الأغاني الماجنة.

بل وتعتبر الجمعية أول جهة صدرت منها الدعوة للاهتمام بالاقتصاد الإسلامي، والدعوة لإنشاء بنك إسلامي، وذلك من خلال محاضرة أقامتها الجمعية للدكتور عيسى عبده رائد الاقتصاد الإسلامي الحديث رحمه الله.

ونضيف إلى ذلك المشاريع المؤسسية الناجحة -والحمد لله- التي تستوعب فلذات أكبادنا من الطلاب من مختلف المراحل، كمشاريع (البذور الصالحة) و(واحات القرآن الكريم) و(شباب المعالي) و(منتدى الجامعيين).

أما ريادة الجمعية في مجال التفاعل مع قضايا الأمة، فالحديث عنه يطول، ولقد كان لهذه الجمعية جهود لا تنكر في مجال مناصرة الشعب الفلسطيني وصموده منذ عشرات السنين.. أبعد كل هذا يقال (عزلة شعورية)! و(فكر جامد)!

 

ولقد بدأت الجمعية في تبني نظام المؤتمرات العامة لأعضائها من أجل تحقيق هدف نبيل يدل على مدى ما توليه الجمعية من اهتمام بالعنصر البشري، فتبنت فكرة عقد مؤتمرات الإصلاح من أجل تحقيق الوحدة الفكرية بين أعضائها العاملين، وتحديد أولوياتها، وتقييم أدائها، وتوسيع قاعدة الشورى في اتخاذ قراراتها، ومن ثم الانطلاق نحو مزيد من العمل والعطاء لخدمة هذا البلد الطيب وأهله..

فعقدت مؤتمر الإصلاح الأول في 1996م تحت شعار (نحو ارتباط أوثق بالمجتمع) لتؤكد على ضرورة تعزيز الانفتاح على المجتمع واستثمار كوامن الخير فيه للإصلاح والترقي..

ثم جاء مؤتمر الإصلاح الثاني في 1998م تحت شعار (جيل المستقبل.. التحديات والفرص) ليسلط الضوء على جيل الشباب، وتعرض للتحديات والفرص الكامنة أمام هذا الجيل في عالم مضطرب يموج بمختلف أنواع القيم والتطورات السياسية وغيرها..

وجاء المؤتمر الثالث في 2000م تحت شعار (ثوابت المجتمع وتحديات النهوض والانفتاح) ليعرض لأهم التحديات التي تواجهها الثوابت والقيم في مجتمعاتنا وهي تسعى نحو النهوض والتنمية..

أما المؤتمر الرابع الذي عقد في نوفمبر 2005م فقد كان تحت شعار (نحو تنمية مؤسسية رائدة) ليؤكد أهمية التحول المؤسسي والأخذ بمبادئ الإدارة الحديثة للمنظمات التطوعية غير الربحية.

وإن مما يذكر لجمعية الإصلاح كذلك أنها اهتمت بتنمية طاقاتها البشرية عن طريق إنشاء قسم متخصص للتدريب نظم منذ إنشائه عام 1999م عشرات الدورات الإدارية لأعضاء الجمعية العاملين، ولغيرهم من المشاركين.

 

ثم، أليست الجمعية تنتهج نهجا إسلاميا واقعيا وسطيا معتدلا، رضيته لنفسها، من واقع تأثرها بمدرسة (الإخوان المسلمين)، وهي المدرسة التي تعتبر أبعد ما تكون عن اعتزال المجتمع أو النظر إليه نظرة دونية؟

ألم تكن المبادرة السريعة إلى تأسيس جمعية (المنبر الوطني الإسلامي) إلا تجاوبا مع المرحلة الجديدة التي نعيشها في زمن الإصلاح؟

وألم تكن النتيجة التي تحققت من خلال صناديق الاقتراع في أكتوبر 2002م إلاّ دليلا دامغا على أن هذا التيار يخالط الناس ولا يعتزلهم، وأنه يتصف بفكر مرن -لا جامد- وعنده مهارة في التكيف في ظل قاعدة (التكيف مع المتغيرات والرسوخ على الثوابت)؟

 

شعار جمعية المنبر الوطني الإسلامي

شعار جمعية المنبر الوطني الإسلامي

 

أما الزعم بأن جمعية الإصلاح قد امتدت وانتشرت أنشطتها من بداية الثمانينيات كنتيجة لإيعاز من جهات رسمية لخلق توازن طائفي -سني شيعي- فهو زعم يفتقر إلى الدليل، كما يناقض كل المعطيات الفكرية والتاريخية.

إن عامل الأحداث الخارجية لها دور لا يمكن نكرانه هنا، فقد شهد العالم بأسره ظاهرة الصحوة الإسلامية من بداية السبعينيات، نتيجة لعدة عوامل، منها السقوط المروع للنظريات المنافسة للفكرة الإسلامية، من قومية وشيوعية واشتراكية، خاصة بعد نكبة عام 1967م، ومنها الإفراج عن الإخوان المسلمين في مصر، بعد سنوات طويلة من الغياب القهري الظالم، فبدءوا في العمل من جديد، وبدأ الإنتاج الفكري والثقافي للإسلاميين عامة، وللإخوان خاصة في الانتشار، وبدأت الجماهير في كل العالم الإسلامي تقبل على الفكرة الإسلامية، وبدأت المظاهر الإسلامية كالحجاب الإسلامي والأناشيد الإسلامية والمؤسسات الإسلامية الاجتماعية والثقافية في الانتشار حيثما وجد مسلمون!

ولم تكن البحرين بدعا في ذلك. ولم يكن السبب يوما من الأيام رغبات من جهات عليا أو توجيهات من متنفذين كما حاول بعض الكتاب أن يصوروا!

 

أما مسألة تدوين تاريخ الجمعية، فلا شك أنه موضوع في غاية الأهمية، ويحس بأهميته أعضاء الجمعية ومحبيها وحتى خصومها! والتاريخ شعاع من الماضي ينير لنا الحاضر والمستقبل.

وجمعية الإصلاح جادة في توفير كل الوسائل المتاحة لتدوين هذا التاريخ المشرف بأسرع وقت ممكن، وقد أنجزت من ذلك الكثير، ولكن الأمانة تقتضي التأني في تنفيذ هذه المهمة الصعبة، إذ هناك بعض العوائق كالحاجة إلى استكمال بعض النواقص في بعض المراحل التاريخية وبخاصة في الخمسينيات والستينيات، وكذلك الحاجة إلى التوثق من بعض الأحداث، فالتاريخ أمانة، والجمعية -مع اعترافها بواجبها في كتابة هذا التاريخ ونشره- ترى أن الاستعجال في ذلك قبل استيفاء الموضوع حقه خضوعا لضغوط الصحافة خطأ.

 

ليس من المؤلم أن تنتقد الجمعية، فهي ليست معصومة، بل إن النقد يدل على حياة هذه الجمعية العريقة وحيويتها وقوتها، ولكن المؤلم في الأمر أن توجه هذه السهام الجارحة (وبالبنط العريض!) -وبغض النظر عن صحة هذه الانتقادات- بطريقة توحي للقارئ أن هذه الجمعية العريقة خالية من الإيجابيات!

والأكثر إيلاماً للنفس، أن تتعدى بعض الكتابات حدود النقد إلى تجريح الأشخاص وافتراء التهم. وكما أنه لا أحد أكبر من النقد، فإنه لا غنى لأحد عن العدل والإنصاف.

 

ورحم الله الإمام الذهبي، فما أحوجنا لأمثاله في هذا الزمان!